
بقلم الاستاذ عثمان اللحياني
اعلامي جزائري
لست مقتنعا تماما بأن الأزمة السياسية بين الجزائر وفرنسا في اتجاه التسوية والحل، بالصورة التي قد يفيد بها مجرد تطور يخص الاتصال الهاتفي الذي جرى بين الرئيسين، ما يمكن الجزم به حاليا هو أن هناك اتفاق على العودة الى “الروتين الدبلوماسي” فحسب، والى حدود خط الاتصال السياسي القائم قبل يوليو 2022، ليس أكثر من ذلك.
يعني “الروتين الدبلوماسي”، تعيين وارسال سفير جديد للجزائر الى باريس، (السفير الذي كان محل استدعاء عين في مدريد)، واستئناف التنسيق في المجالات التي تعني البلدين، سياسية واقتصادية، أمنية وقضائية، والعودة الى الاطار الذي ينظم العلاقات بين البلدين وضمن اطار التفاهمات القائمة، بما يتيح لكل طرف طرح القضايا والمطالب التي تعنيه، دون أن يعني ذلك تحييد كل أسباب الأزمة ومسبباتها.
بتقديري، الأزمة أعمق بكثير، والتاريخ هو الذي حكم على العلاقات الجزائرية الفرنسية بأن تكون وتبقى “علاقات أزمة”، وتخضع “لقانون الموتى”، ذلك أن ما يجمع بين الجزائر وفرنسا من أسباب الخلاف والعوامل المؤدية الى الأزمات الظرفية، أكبر وأكثر بكثير من الأسباب التي يمكن أن تؤسس لعلاقات جيدة، ولهذا السبب وجد أن “علاقات أزمة” هذه، هي بحاجة الى إدارة وتفاهمات ضمن نسق من الروتين الدبلوماسي، وهذا هو السقف الممكن، لكون أن تطبيع العلاقة الى مستوى أعلى من ذلك غير ممكن ان لم يكن مستحيل، الوقائع والزمن السياسي كان يثبت ذلك دائما .
وحتى العودة الى هذا المستوى من العلاقة، مرتبط بمخرجات الزيارات التي سيقوم بها وزيري الخارجية والعدل الفرنسيين، وما يمكن أن تقدمه باريس من تنازلات بشأن في مقابل حدود التنازلات التي ستقدم من قبل الجزائر. بالنسبة للجزائر، هناك ما هو أهم من صنصال على قبحه ووقاحته، هو تسلم عدد من المطلوبين للقضاء الجزائري، سواء المعنيين بقضايا الفساد أو بقضايا ذات طابع سياسي (النشطاء)، وهذا بحد ذاته يمثل امتحانا كبيرا بالنسبة لمؤسسة الحكم الحالية في باريس، خاصة بالنظر الى طبيعة الحكم والنظام السياسي في فرنسا، والذي لا يتيح للمؤسسة السياسية التدخل في عمل القضاء على نحو معين.
وعلى افتراض التوصل الى تفاهمات بشأن حزمة القضايا المطروحة في جدول أعمال العلاقات الجزائرية الفرنسية في الوقت الحالي، فان حزمة قضايا أخرى ستطفو تباعا على المشهد، وستتحول بحد ذاتها الى عامل أزمة، وهو ما أكدته الأزمة الأخيرة التي أظهرت قضايا لم تكن قيد التداول، (ملف العقارات) على سبيل المثال، ملف التجارب والنفايات النووية، لم تكن مطروحة قبل وقت، وأضيفت الى لائحة القضايا، أيضا مدافن المواد الكيماوية ملف الجماجم حديث أيضا ولم يكن قبل عقد على لائحة القضايا، وهذه ملفات وقضايا الاستجابة لها مكلفة بالنسبة لفرنسا، ماديا وسياسيا، ولذلك تنحاز الى إطالة وتأخير الاستجابة بالقدر الممكن.
ثم وبخلاف ذلك، ليس هناك ما يمكن أن يؤكد أن اليمين الفرنسي الذي له امتداداته في مؤسسات الحكم وفي مجتمع السياسة والاعلام، لن يبادر عبر كل أدواته النافذة الى تعطيل أية محاولة لتسوية ملفات عالقة وقضايا خلافية، وهذا اليمين الفرنسي المناور والمناور لا يستطيع التخلي عن “ورقة انتخابية”، على بعد أقل من عامين من انتخابات الرئاسة 2027، الأزمة مع الجزائر كانت دائما تمثل المناخ المثالي لهذا اليمين الذي يستفيد أيضا من مساحاته الطبيعية بحكم تركيبة النظام السياسي في فرنسا، بخلاف الجزائر التي تتفرد فيها السلطة السياسية وتحكم قبضتها على كل المشهد.
المسافة المتباعدة لا تطويها خطوة، وترتيب المشهد على النحو السليم، يظهر أن الخسارة الثقافية لفرنسا في الجزائر، كبيرة وغير قابلة للتعويض، ذلك أن الاتجاه الذي اتخذته الجزائر بشأن “الفرنسية الكولونيالية”، خيار استراتيجي وقائم بالتوسع من المجال التعليمي الى المجال المعرفي الى المجال الرسمي والاقتصادي، ثم أن الخسارة الاقتصادية نفسها لفرنسا في السوق الجزائرية من المستحيل استدراكها، التوجه الاقتصادي الجزائري حسم في الخيار والشركاء لصالح الشرق، ولصالح بدائل غير فرنسا في المتوسط وفي أوروبا، بحيث لم تعد تمثل فرنسا أي قيمة في الاقتصاد الجزائري، استثمارا أو تجارة .
ليس هناك ، -وجزما لن يتوفر-، ملمح حقيقي يمكن أن يؤكد أن هناك تطبيع وانهاء للأزمة، هناك اتفاق بين الرئيسين على تسيير الأزمة بشكل مختلف أقل صخبا وأكثر هدوء، بالنظر الى استحقاقات تخص كل طرف…في الحوار السياسي وإدارة العلاقات، التعبير عن النوايا الحسنة كان دائما هواية، تشبه ” الضحكة الصفراء”، لا تعبر عن الحقيقة والحقائق، الا من أراد أن يقول: “أنا أغمض عيني، فأنا لا أراك يا شجرة”.