
مجلة البلاد اللبنانية: تصدر أسبوعيًا عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان، العدد رقم 480، تاريخ الجمعة 21فبراير2025
الحركة الصهيونية العالمية لم تتوقف منذ البدايات عن المزاوجة بين خوض الصراع من أجل الإستيلاء على كامل أرض فلسطين، ومن أجل تكثيف الهجرة توصلاً لإيجاد غالبية يهودية. لكنَ إذا كان عدد المستوطنين اليهود في” إسرائيل الكبرى” العزيزة على قلب اليمين الصهيوني الفاشي يبلغ 6. 7 ملايين و707 آلاف ، بينما يصل عدد السكان العرب من فلسطينيي 48 إلى مليونين و104 آلاف نسمة، وعدد سكان باقي الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى 5.5 مليون نسمة، بينهم 3.4 مليون في الضفة الغربية، و2.1مليون في قطاع غزّة، فإنَّ العرب الفلسطينيين سيصبحون الأكثرية في فلسطين المحتلة 10.8مليون خلال العام 2030،مقابل 7.6 ملايين مستوطن صهيوني.
الكيان الصهيوني لا يملك سوى سلاحين من شأنهما ردِّ هذا الخطر عنه: الهجرة اليهودية المكثفة الى الكيان الصهيوني و/أو التهجير القسري للفلسطينيين. ولا يبدو الإحتمال الأول قابلاً للتحقق إلا إذا حدثت أعمال عنف لاسامية خطيرة في الغرب. أما الثاني والمعروف عنه باسم خطة ترامب لتهجيرفلسطينيي غزّة ويحلم به رئيس الحكومة الصهيونية الفاشية بنيامين نتنياهو وقسم من اليمين الصهيوني فلا يمكن تنفيذه، مادامت المقاومة الفلسطينية قابضة على الزناد من أجل تحرير الأرض السليبة، إضافة أنَّه أي بلد عربي لديه ما يكفي من الجنون ليستقبل السكان الفلسطينيين المهجرين قسرًا وعن طريق القوة في بلاده.
موقف النظام الرسمي العربي وإمكانية استناده على المقاومة
في 4 شباط/ فبراير2025 ، كشف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال مؤتمر صحفي جمعه برئيس الحكومة الصهيونية الفاشية بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض، عن عزم بلاده الاستيلاء على غزَّة بعد تهجير الفلسطينيين منها إلى دول أخرى، مثل مصر والأردن.ولاقى مخطط ترامب لغزَّة رفضًا فلسطينيًا وعربيًا ودوليًا واسعًا، بينما قوبل بإشادة كبيرة على المستوى السياسي في الكيان الصهيوني بمختلف التوجهات.
التهجير القسري للفلسطينيين من قطاع غزَّة، الذي يريد زعيم الإمبريالية الأمريكية دونالد ترامب فرضه على الأنظمة العربية لاستقبال الفلسطينيين يعني شيئًا واحدًا وهو تصفية القضية الفلسطينية، وتطبيق حلول أحادية الجانب لا تلبي تطلعات الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، بما في ذلك دعم الضمِّ في الضفة الغربية، ومأسسة نظام الأبارتهايد، أونظام التمييز العنصري.
فها هو الرئيس الإماراتي محمد بن زايد يؤكد خلال استقباله لوزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو في أبوظبي يوم الإربعاء 19فبراير 2025، في المحطة الأخيرة من جولته الشرق أوسطية، على “رفض دولة الإمارات لأي محاولات تهدف إلى تهجيرالشعب الفلسطيني من أرضه”، معربًا عن ضرورة ربط عملية إعمار غزة “بمسار يؤدي إلى السلام الشامل والدائم، القائم على أساس حل الدولتين”.يأتي ذلك في وقت قال فيه سفير الإمارات لدى واشنطن، يوسف العتيبة، إنَّ الولايات المتحدة تتبع نهجًا “صعبًا” بشأن غزة، مشيرًا إلى عدم وجود خطة بديلة لما تم طرحه حتى الآن.
أمًا المرشد الإيراني علي خامنئي، فقال: إنّ خطة الولايات المتحدة “الحمقاء” بشأن قطاع غزّة لن تتحقق، ولن يكتب النجاح لأي مشروع أو رؤية لا تحظى بموافقة الشعب والمقاومة الفلسطينية.وأضاف خامنئي خلال استقباله الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، زياد النخالة، الثلاثاء الماضي ، أن الرأي العام العالمي بات يميل اليوم لمصلحة فلسطین، وإن المقاومة أثبت جدارتها وعظمتها أمام جبروت الاحتلال.
واعتبر خامنئي أنَّ ” المقاومة أمام الاحتلال وواشنطن أمر عظيم، رسم معايير جديدة للنضال في المنطقة”. مشيدا في الوقت نفسه بمشاهد تسليم المقاومة للأسرى الإسرائيليين قائلا، إن ما جرى يؤكد أنّ “صمود قادة المقاومة والمقاومين أمام الأعداء، ووحدتهم في أثناء المفاوضات المعقدة، وصبر أهل غزَّة البطولي، أمرٌ رفع رأس المقاومة في المنطقة”.
في حين أنَّ الأنظمة العربية، حتى الموالية لأمريكا لا تزال تدافع عن رؤيتها، ومتمسكة بقرارات القمة العربية في بيروت لعام 2002، وهي:
–1 الانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة بما في ذلك الجولان السوري وحتى خط الرابع من يونيو/حزيران 1967، والأراضي التي ما زالت محتلة في جنوب لبنان.
2- التوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يتفق عليه وفقا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194.
3- قبول قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الرابع من يونيو/حزيران 1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة وتكون عاصمتها القدس الشرقية.
4-عندئذ تقوم الدول العربية بما يلي:
أ – اعتبار الصراع العربي الإسرائيلي منتهيا، والدخول في اتفاقية سلام بينها وبين إسرائيل مع تحقيق الأمن لجميع دول المنطقة.
ب- إنشاء علاقات طبيعية مع إسرائيل في إطار هذا السلام الشامل.
ج-ضمان رفض كل أشكال التوطين الفلسطيني الذي يتنافى والوضع الخاص في البلدان العربية المضيفة.
الآن في ضوء صمود المقاومة الفلسطينية في مواجهة آلة الحرب الأمريكية الصهيونية لمدة سنة وثلاثة أشهر، فإنَّ الأنظمة الرسمية العربية في كل من مصر والمملكة السعودية وباقي دول الخليج، والمملكة الأردنية لا تستطيع أن تتجاهل حقيقة صمود المقاومة، وتمسكها بخيارها الاستراتيجي من أجل تحرير الأرض، وإقامة الدولة الوطنية الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، ولهذا رأينا في الفترة الأخيرة بعض من شجاعة النظام الرسمي العربي يقول لا لخطة ترامب .
فقد دعت مصر إلى عقد قمة عربية يوم 27 شباط الجاري، ثمَّ تمَّ تأجيلها ليوم 4مارس/ آذار المقبل، إِذْ تعتزم الدول العربية مناقشة خطة ما بعد الحرب لإعادة إعمار غزة، في مسعى على ما يبدو لطرح بديل لخطط الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتهجير سكان القطاع وبسط السيطرة الأمريكية عليه، واتخاذ ما يناسب الموقف والحالة الفلسطينية، إزاء التهديدات الأمريكية والصهيونية دون محاولة فرض إملاءات على الواقع الفلسطيني، أو السعي لمنح أمريكا و الكيان الصهيوني مكاسب مجانية لم يحققاها عبر الحرب، بما فيها محاولة تحييد حماس والمقاومة من غزَّة.
الشجاعة النسبية في الموقف الرسمي العربي الحالي نابعة من ثلاثة عوامل أساسية:
أولاً: سياسة الإملاءات الذليلة التي بدأ يفرضها الرئيس الأمريكي في ولايته الثانية على الأنظمة الرسمية في إقليم الشرق الأوسط، وهو ما أسهم في تعرية هذه الأنظمة أمام الشعوب العربية، من كونها أنظمة تستمد قوتها وشرعيها من البقاء في الحكم من خلال الخضوع الأعمى لسياسة التبعية للإمبريالية الأمريكية.
إنَّ معظم الدول العربية نشأت في أحضان العولمة الرأسمالية منذ يومها الأول ولا تزال تترعرع أوتنهار تحت رعايتها حتى هذه الساعة، أي في زمن العولمة الأمريكية الليبرالية المتوحشة.من هنا لا يمكن النظر إلى الدول العربية كعضوية قائمة بذاتها بل كوحدة مشروطة بوظيفتها كموقع في شبكة الحقل السيادي الرأسمالي العالمي بقيادة الدول الغربية الأمريكية والأوروبية الوارث التاريخي للحقل التاريخي الإسلامي.
وهكذا، فإنَّ سيادة الدول العربية خاضعة للحقل السيادي الرأسمالي الأوروبي-الأمريكي. ومن هنا يأتي التباس معنى السيادة الوطنية كتعبير عن “الأزمة الشرعية”للدولة الوطنية العربية كتكوين سياسي محكوم بالبحث الدائم عن إخفاء معالم شرعيته التاريخية.
والسؤال المطروح عربيًا، هل يمتلك النظام الرسمي العربي استراتيجية قومية وفكر سياسي راديكالي لتحويل القضية الفلسطينية من موقع خاضع للسيادة الرأسمالية الأوروبية -الأمريكية إلى موقع متمرد على هذه السيادة، وإعادة فتح الحقل التاريخي العربي المقاوم للمشروع الإمبريالي الأمريكي والمشروع الصهيوني، لا سيما أنَّ المقاومات العربية في فلسطين ولبنان واليمن والعراق، المتمسكة بمركزية القضية الفلسطينية، وعدالتها ـ وحق الشعوب العربية في إسناد المقاومة الفلسطينية في غزة، والضفة الغربية وشمال فلسطين، هو التحول إلى ثورة وطنية جذرية قادرة على التحرروالانعتاق كُلِّيًا من الحقل السيادي للهيمنة الغربية الأوروبية والأمريكية.
ثانيًا: دعوة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي المجتمع الدولي يوم الأربعاء الماضي إلى تبني خطة مصر لإعادة إعمار غزَّة من دون تهجير الفلسطينيين، وذلك بعدما أثار مقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حين كشف عن رؤيته للقطاع غضب العرب.وقال السيسي في مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الوزراء الإسباني في مدريد “أكدنا على أهمية دعم المجتمع الدولي وتبنيه خطة إعادة إعمار قطاع غزة دون تهجير الشعب الفلسطينى، وأكرر دون تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه التى يتمسك بها، ووطنه الذى لا يقبل التفريط فيه، وبما يضمن البدء الفوري فى عمليات الإغاثة والتعافي المبكر”.
وحدَّدّ تقرير أممي أصدرته الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي، يوم الإربعاء الماضي، أنَّ الاحتياجات اللازمة لإعادة إعمار قطاع غزة بعد 15 شهراً من حرب الإبادة الصهيونية عليه ستتجاوز الـ53 مليار دولار.وأشار التقييم السريع والمبدئي للأضرار والاحتياجات اللازمة إلى الحاجة إلى 53.2 مليار دولار للتعافي وإعادة الإعمار على مدى السنوات العشر المقبلة، منها 20 مليار دولار في السنوات الثلاث الأولى.
وقبل أسبوع كتب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، في تقرير تم إعداده بناءً على طلب الجمعية العامة، أنَّ المبالغ الضرورية للنهوض وإعادة الإعمار على المدى القصير والمتوسط والبعيد في قطاع غزة “تقدّر بنحو 53 ملياراً و142 مليون دولار. وضمن هذا المبلغ، يقدر التمويل الضروري على المدى القصير للأعوام الثلاثة الأولى بنحو 20 مليارا و568 مليون دولار”.
وفي وقت سابق كشفت دراسة لمؤسسة “راند” البحثية الأمريكية أنَّ إعادة إعمار قطاع غزة سيكلف أكثر من 80 مليار دولار، وأنَّ إزالة الأنقاض وحدها ستكلف ما يزيد على 700 مليون دولار.
ثالثًا:إنَّ القمة العربية المقبلة ستتبنى الخطة المصرية، والتي لن تشمل حماس أو السلطة الفلسطينية، بل إنهَّا ستشمل قوة شرطة مكونة من رجال شرطة السلطة الفلسطينية الذين بقوا في غزة بعد عام 2007، عندما فازت حركة حماس بالانتخابات التشريعية وسيطرت على القطاع. وفي مايو/ أيار الماضي، ذكرت صحيفة “ميدل إيست آي” أنَّ حماس مستعدةٌ لإظهار “المرونة” بشأن الحكم المستقبلي في غزَّة، مشيرة إلى أنَّ شرطها هو أن يتم الاتفاق على مصير غزة من قبل الفصائل الفلسطينية الأخرى وليس فرضه من قبل الولايات المتحدة أو الكيان الصهيوني “هل تمتلك المبادرة التي تصوغها الدول العربية، القدرة الكافية على تسويقها مقابل الرئيس ترامب”، في إشارة إلى احتمال اقتناع الأخير فيها.
وعلى هذا الأساس، يبدي الكيان الصهيوني يقظة من أنَّ الدول العربية، وفي مقدمتها قطر ومصر “أخذت تضغط أخيراً على حماس لقبول خطتها، التي تقوم على النموذج اللبناني، وهو ما وافقت عليه حماس منذ ثمانية أشهر”. بحسب صحيفة “ميدل إيست آي” ، تنطلق الدول العربية من افتراض مفاده بأنَّ “حماس لا يمكنها البقاء في السلطة. ولذلك تُدفع أخيراً أفكار حول لجنة مدنية لتحكم القطاع”.
أمّا ما يقلق المستوى السياسي الصهيوني بشكل خاص، فهو “تلقي مؤشرات أخيرًا على مرونة تبديها حماس تجاه موطئ قدم للسلطة الفلسطينية في غزَّة، ضمن اللجنة المدنية المقترحة”. فبحسب الصحيفة، لم تعد الحركة متشددة تجاه الصفة التي ستحملها السلطة الفلسطينية في غزَّة. وتتابع: “من يتتبع الجهود في العالم العربي للدفع بفكرة اللجنة المدنية بديلاً من حماس، يعتقد أنَّه إذا لم تأخذ “إسرائيل” الخطة العربية المطروحة بجدية، فسيتلقى مفاجأة غير طيبة في المرحلة الثانية”، حيث قد تجد “إسرائيل” نفسها “بمواجهة موقف مشترك مؤيد لحل اللجنة المدنية من جميع الأطراف. وإن نضجت الخطة العربية وسُوِّقَت في البيت الأبيض، قد يصبح من الصعب على “إسرائيل” الاعتراض عليها، وكم بالحري العودة إلى الحرب”.
خاتمة: في القمة العربية المقبلة سوف يتم التشديد على أنَّ الدول العربية لا يمكن لها فقط أن تعلن رفضها التام فكرة الترانسفير التي طرحها ترامب، بل عليها إلى جانب ذلك أن تطرح خطة لمستقبل قطاع غزّة ما بعد الحرب، والتي لا بُد أن تشمل برنامج إعادة إعمار وتأهيل، وإنشاء سلطة لإدارته المدنية.
ما يهم الكيان الصهيوني ومعه الإمبريالية الأمريكية، هوضرورة استبعاد حركة حماس من أي إدارة سوف تتشكّل لتولي إدارة قطاع غزة مدنيّاً. وثمّة قناعة شبه راسخة في الكيان الصهيوني بأنَّه حتى لو تنازل ترامب عن خطة الترانسفير، فإنَّه لن يتنازل عن مطلب استبعاد حركة حماس، وربما سوف يضغط من أجل اقتراح خطة عمل “ترمي إلى محاربة استمرار المقدّرات العسكرية لهذه الحركة في القطاع”، والتي تعني تدمير “حماس” بوصفها قوة عسكرية في القطاع.
فهل ستتبنى الدول العربية الموقف الأمريكي الصهيوني الداعي إلى تصفية المقاومة الفلسطينية ، مقابل عدم استئناف الكيان الصهيوني الحرب على غزّة لفرض ذلك بالقوة، بالرغم من إخفاق الحرب التي دخلت يومها الـ500 في تحقيق ذلك؟.
تمنح المقاومات العربية، كل الإمكانية للنظام الرسمي العربي لكي يحفر مجرى مسار مختلف أكثر حزماً وصرامة في مواجهة سياسة الهيمنة الأمريكية وإملائاتها، وتعزز فرصة لم تتوافر منذ عقودٍ، لتوليد موقفٍ وخيارٍ عربيٍ يَتَكِئُ على صلابة موقف المقاومة وقدرتها التفاوضية، بحيث يمكن الاعتماد والتأسيس على ذلك في القمة العربية والقمة الإسلامية التي تليها، في لحظةٍ تاريخيةٍ لبلورة موقفٍ عربيٍّ وإسلاميٍّ صارمٍ إزاء مسائل التهجير وإعادة الإعمار وإدارة القطاع وآليات توحيد الحكم الفلسطيني وإنهاء الانقسام الذي يبقى شوكة في حلق الفلسطينيين أنفسهم. ليس مطلوباً من القمة العربية أكثر من رفض التهجير وخطة إعمار، والباقي تتكفل به الشعوب العربية والمقاومة.