توفيق المديني
تمر سورية بمرحلةٍ انتقاليةٍ صعبةٍ ومعقدةٍ، وتقود السلطة السياسية فيها هيئة تحرير الشام وحلفاؤها، فصائل سلفية وجهادية، المعروفة بارتباطاتها الإقليمية مع تركيا، وهذا ما جعل الكيان الصهيوني في تقييمه لمرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد، يرى أنَّ تحالف الفصائل السورية مع أنقرة يمثل تهديدًا أمنيًا جديدًا لـ”إسرائيل” قد يكون “أكثر خطورة من التهديد الإيراني”، وأنَّ تقلص النفوذ الإيراني في سورية يُعَدُ إنجازًا عسكريًا وسياسيًا كبيرًا لـ”إسرائيل”، غير أنَّ المستفيد الأكبر من الزلزال السوري على المستوى الاستراتيجي هو تركيا، لا سيما أنَّ مساعي الرئيس أردوغان لاستعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية يُهَدِّدُ بتدهور العلاقات مع “إسرائيل”، مع احتمال نشوب صراعٍ مباشرٍ بين الطرفين.
وفي ظل هذه التغيرات شقتْ تركيا لنفسها مسيرة جديدة للسياسة الخارجية بعد أن تحرَّرتْ بطريقة ما من الوصاية الأمريكية وأعادت التوازن لعلاقاتها مع الولايات المتحدة .فتركيا اليوم لاعب كبير في الشرق الأوسط وسياستها مميزة مع الجيران المباشرين إيران والعالم العربي، وعلاقاتها أفضل مع روسيا واليونان وأرمينيا إضافة إلى أنَّ لها دبلوماسية مصالح وطنية مستندة إلى صعود الدور الإقليمي التركي.
ويشكل الصراع على سورية جزءًا من المشهد الإقليمي المعقد الذي أفرزته الحرب السورية المستمرة منذ عام 2011. رغم عدم وجود مواجهة مباشرة بين تركيا و الكيان الصهيوني على الأرض السورية، فإنَّ المصالح المتداخلة والأدوار المتناقضة تعكس صراعًا غير مباشر يمتد إلى قضايا أمنية، جيوسياسية، واقتصادية. في هذا السياق، يُثار التساؤل حول مستقبل هذا الصراع وما قد يترتب عليه في ظل التغيرات الإقليمية والدولية.
رغم احتلال الكيان الصهيوني هضبة الجولان منذ العام 1967، وازداد توغلاً عسكريًا في الأراضي السورية بعد سقوط نظام الأسد، إِذْ أصبح يسيطر على مساحة 400كيلومترًا مربعًا، من محافظتي القنيطرة ودمشق، وجنوب غرب ريف درعا، فإنَّ القوات الصهيونية لا تستطيع الحفاظ على مناطق كبيرة في الأراضي السورية، وهذا ما سيدفع الكيان الصهيوني إلى إشراك الولايات المتحدة في تحركاته الإقليمية لاحتواء النفوذ التركي.وبالتالي من المتوقع قيام واشنطن بخطوة تمهيدية نيابة عن “إسرائيل”، من خلال التصعيد العسكري في شمال سورية، رغم وعود ترامب المعلنة بسحب القوات الأمريكية من منطقة الفرات، ما قد يؤدي إلى تورط الولايات المتحدة في حربٍ طويلةٍ أخرى من أجل تحقيق أهداف بعيدة المدى تتعلق أساسًا بمشروع “إسرائيل الكبرى”.
مخاوف تركيا من الانفصاليين الأكراد المدعومين أمريكيًا وصهيونيًا
من وجهة نظر تركيا تُعَدُّ سورية امتدادًا مباشرًا لأمنها القومي ومجالها الحيوي، حيث تسعى إلى تأمين حدودها الجنوبية من خلال استهداف الجماعات الكردية المسلحة، مثل وحدات حماية الشعب (YPG)، وهي ميليشيا مسلحة كردية غير معترف بها من قبل الحكومة السورية السابقة، وتشكل قواتها العمود الفقري لقوات سورية الديمقراطية”قسد”.
قاد انسحاب القوات الحكومية السورية من المناطق الكردية في سورية منتصف عام 2012 إلى اتهام حزب الاتحاد الديمقراطي ومقاتلي الوحدات بالتعاون مع نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، مما وتّر العلاقات بين المقاتلين الأكراد والمعارضة السورية، خاصة بعد رفض هؤلاء المسلحين الأكراد السماح للمعارضين للنظام بمحاربته من المناطق الكردية.
ورأى خبراء أنَّ العلاقة مع النظام السوري لم تصل إلى مستوى التحالف، بل عكست تفاهمًا إستراتيجيًا أو مجرد التقاء مصالح أبعد القوات الحكومية عن فتح جبهة جديدة، وسمح للأكراد بالتركيز على مسألة تحقيق حكم ذاتي.
وذكرت “مجموعة الأزمات الدولية” أنَّ وحدات حماية الشعب تدفع رواتب شهرية تبلغ نحو 150 دولارا لما بين 25 و30 ألف مقاتل، وأنهم يتلقون ثلاثة أشهر من التدريبات في واحدة من تسع أكاديميات عسكرية تتوزع على المناطق الكردية الثلاث في سوريا.وأكَّدَ خبراء أنَّ المجموعة تعتمد في مصادر تمويلها على الضرائب التي تجبيها في المناطق الكردية، وعلى دعم حزب العمال الكردستاني الذي يحظى بمساندة شبكة من الممولين في أوروبا وتركيا والجالية الكردية في مناطق أخرى من العالم.
وبعد سيطرة تنظيم الدولة على مدن عراقية كبرى -بينها الموصل-وإعلانه “دولة الخلافة الإسلامية” في يونيو/حزيران 2014، أصدرت الهيئات التشريعية المحلية التي أنشأها الاتحاد الديمقراطي في المناطق ذاتها قانونًا يفرض الخدمة الإلزامية على الشباب والطوعية على الفتيات، مما رفع عدد عناصر الوحدات -بحسب تقديرات- إلى 65 ألفا.
وقام مقاتلو الوحدات الكردية بدورٍ رئيسيٍ في القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية”داعش”، وشاركت في ذلك عائلات كاملة في مدينة عين العرب (كوباني)، مستفيدة من امتلاكها بعض الأسلحة الثقيلة والدبابات التي غنمتها من مجموعات مسلحة أخرى أو من قوات النظام في سورية.
وخلال معركة استعادة بلدة عين العرب (كوباني) من سيطرة مؤقتة لتنظيم الدولة عليها في أغسطس/آب 2015، تلقت الوحدات دعمًا لوجستيًا أنزله -من الجو بواسطة المظلات-التحالف الدولي المناهض لتنظيم الدولة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، كما آزرتها وحدات من البشمركة الكردية العراقية المزودة بأسلحة متوسطة بعد مرورها عبر أراضي تركيا.
وشكلت وحدات حماية الشعب في أكتوبر/تشرين الأول 2015 ائتلافًا عسكريًا مع فصائل كردية وتركمانية وعربية وسريانية تعمل في الشمال السوري عرف باسم”قوات سورية الديمقراطية”، وتمكنت من انتزاع سد تشرين الإستراتيجي في أقصى ريف حلب الشرقي من يد تنظيم الدولة، كما خاضت معارك مع كل من”جبهة النصرة” و”حركة أحرار الشام” في منطقة عفرين وفي حي الشيخ مقصود في مدينة حلب.وهي قوات شُكّلت من قبل الوحدات وحظيتْ بدعمٍ عسكريٍّ أمريكيٍّ.
فبعد أسبوعين من سقوط نظام الأسد، كشفت هيئة البث الصهيونية عن اتصالات يجريها مسؤولون صهاينة مع قوات سورية الديمقراطية “قسد” مع الإشارة إلى وجود دراسة لدعم الأكراد “بطرق غير عسكرية”.وناقش وزير الأمن في الحكومة الصهيونية الفاشية إيتمار بن غفير ضمن اجتماع مصغر في الأسبوع الأول من شهر كانون الأول/ديسمبر 2024إمكانية تقسيم سورية إلى كانتونات إدارية.
وتتالت التحذيرات الصهيونية للولايات المتحدة من التخلي عن قوات سورية الديمقراطية “قسد”، حيث دعا المحلل العسكري الصهيوني عيدو ليفي ضمن تقرير نشره في معهد واشنطن إلى استمرار الدعم الأمريكي ل”قسد” من أجل تحجيم “هيئة تحرير الشام” التي استولت على السلطة في دمشق.كما طالب ليفي واشنطن بإعادة تقييم احتياجات “قسد” لضمان استمرار سيطرتها على شمال شرق سورية، ومنع كلّ من الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، وهيئة تحرير الشام من السيطرة على المنطقة الشرقية من البلاد.
وبالمقابل يبدو الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مرتاحاً إلى وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض؛ ذلك أنَّ علاقتهما كانت مقبولة جدًّا خلال ولايته الأولى، إلى درجة أنَّ واشنطن كادت تسحب قواتها من سورية في عام 2018، وصادقت، في عام 2019، على عملية “نبع السلام” ضد “الوحدات” الكردية، والتي احتلّ الجيش التركي بموجبها المنطقة الواقعة من تل أبيض إلى رأس العين، وبعمق 30 كيلومترًا. كذلك، فإن ما يطمئن أردوغان، هو وصْف ترامب له، بعد سقوط نظام بشار الأسد، بـ”الرجل الذكي والقويّ”، وبأنَّه بنى جيشاً حديثاً. وفي ما يشبه التفويض، قال الرئيس الأمريكي إنَّ “مفتاح سورية بيد تركيا”. وأثناء استقباله، يوم الإثنين 21يناير 2025، رئيس وزراء سلوفاكيا، روبرت فيكو، قال أردوغان عن ترامب، إنَّ “استمرار صداقتنا كما كانت عليه في الولاية الأولى، سيكون أمراً مهمًّا جدًّا”.
وفي 10 يناير/كانون الثاني ا2025 أبدت إلهام أحمد رئيسة دائرة الشؤون الخارجية للإدارة الذاتية (الذراع الإدارية لقسد) استعدادهم للتعاون مع أي جهة تطالب القوات الأمريكية بالبقاء في سورية، ولا سيما الكيان الصهيوني.وتحاول” قسد” الاستفادة من تأثيرالكيان الصهيوني في الأوساط الأميركية لِثَنْيِ إدارة دونالد ترامب عن فكرة الانسحاب من سورية، وتوفير بديلٍ إقليميٍّ حال قرَّرَتْ واشنطن بالفعل تقليص حضورها في سورية.
ومن الواضح أنَّ الكيان الصهيوني سيلعب بالورقة الكردية في مواجهة تركيا، وكان الرئيس التركي أردوغان قد اتهم في تشرين الأول/ أكتوبر 2024، خلال افتتاح الدورة الجديدة للبرلمان، حكومة نتنياهو بأنَّها ترغب في التوسع على حساب بلاده قائلاً:”الإدارة الإسرائيلية، التي تستند في تصرفاتها إلى وهم الأرض الموعودة، سوف تستهدف وطننا بعد فلسطين ولبنان، بعقلية دينية متعصبة.. تحلم حكومة نتنياهو بضم الأناضول، وقد كشفت عن هذا الهدف أكثر من مرَّة. نحن نتابع عن كثب الهجمات الإسرائيلية في فلسطين ولبنان، كما نلاحظ رغبتها في إنشاء كيان تابع لها في شمال العراق وسورية، باستخدام المنظمات الانفصالية كأداة في سياستها الخارجية”.
وكان وزير الخارجية الصهيوني جدعون ساعر قد أعرب عن دعمه لحزب العمال الكردستاني قائلاً: “الأكراد هم شعب عظيم. وهو أحد الشعوب التي لا تتمتع بالاستقلال السياسي. إنَّهم حلفاؤنا الطبيعيون. ينبغي أنْ نَمُدَّ يَدَ العون للأكراد ونُقَوِّيَ علاقاتنا معهم، هذا له بعدٌ سياسيٌ وأمنيٌ”.
وأضاف: “ينبغي أن تتحد الأقليات في المنطقة. الأكراد هم ضحايا القمع الإيراني والتركي. يتعين على “إسرائيل” التواصل معهم وتعزيز العلاقات. نحن أقلية في المنطقة، لذلك من الطبيعي أن تكون الأقليات الأخرى حليفتنا”.وختم المركز بأنَّ مآلات التنافس على توسيع النفوذ بين “إسرائيل” والولايات المتحدة من جهة، وتركيا من جهة أخرى، سوف تشكل مستقبل سورية والمنطقة ككل.
في هذا السياق تنظر تركيا إلى العلاقة التي تربط “قسد” بالكيان الصهيوني بقلقٍ بالغٍ، وتحاول تسريع الحسم العسكري الميداني، وهذا ما دفع أنقرة لتكثيف الهجمات الجوية على مواقع القوات الكردية قرب منطقة منبج التي تعتبر بوابة الوصول إلى الرقة.وقالت مصادر سورية إنَّ قوات الحكومة الجديدة جرحت وقتلت العشرات من “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، في معارك على محاور عدة بريف دير الزور شمالي شرق سورية. وأشارت المصادر إلى أن إدارة العمليات العسكرية أرسلت تعزيزات عسكرية تجاه شمال وشرق سورية، بالتزامن مع هجمات شنتها فصائل الجيش الوطني المدعوم من تركيا على المناطق المحاذية لمنطقة عين العرب..وتُعارضُ تركيا أي تحركات صهيونية تعزز النفوذ الكردي في المنطقة، بينما يراقب الكيان الصهيوني بحذرٍ التحركات العسكرية التركية شمال سورية وتأثيرها على التوازن الإقليمي.
إنشاء منطقة إسرائيلية عازلة داخل سورية
يُرَكِّزُ الكيان الصهيوني على مواجهة التهديد الإيراني في سورية، خاصة فيما يتعلق بنقل الأسلحة إلى حزب الله وإنشاء قواعد عسكرية إيرانية بالقرب من الحدود مع فلسطين المحتلة، والجولان المحتل .ورغم تداخل المصالح التركية والصهيونية أحيانًا، مثل رفضهما للوجود الإيراني المتزايد، فإنَّ تناقض الأولويات قد يؤدي إلى تصادم غير مباشر.
في 10 يناير/كانون الثاني 2025، نقلت صحيفة يديعوت أحرونوت عن مسؤولين صهاينة التخطيط لإبقاء السيطرة الصهيونية على مساحة داخل الأراضي السورية بعمق 15 كيلومترا، بهدف التأكد أن الإدارة الجديدة والموالين لها لن يتمكنوا من إطلاق صواريخ باتجاه هضبة الجولان.وسارعت تركيا إلى جانب دول عربية أخرى لمطالبة الكيان الصهيوني بسحب قواته من الأراضي السورية.
وبحسب ما أكَّدَتْهُ مصادر مطلعة لموقع الجزيرة نت، فإنَّ الإدارة السورية الجديدة طلبتْ من الجانب التركي مرارًا استخدام قنواته الدبلوماسية مع الدول الإقليمية والولايات المتحدة من أجل دفع القوات الصهيونية لمغادرة الأراضي السورية.
ووفقًا لهذه لمصادر، فإنَّ الإدارة السورية الجديدة منفتحةٌ على توقيع شراكةٍ دفاعيةٍ مع تركيا تتضمن توفير الحماية للأجواء السورية، وإقامة نقاطِ مراقبةٍ في بعض مناطق الجنوب السوري بالتنسيق مع القواتِ الأمميةِ لسحب الذرائعِ الصهيونيةِ التي تستخدمها للتوغل ضمن الأراضي السورية، لكنَّ يبدو أنَّ الجانب التركي يتمهل تجنبا لإثارة المزيد من الحساسيةِ.
وكانت تركيا قد بدأت إطلاق تحذيراتٍ من التوسع الصهيوني في سورية قبل سقوط نظام الأسد، وواصلت تحذيراتها في المرحلة التي تولتْ فيها إدارة جديدة البلاد، ففي أكتوبر/تشرين الأول 2024 حَذَّرَ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من أنَّ الكيان الصهيوني يتحرك نحو دمشق، وأنَّ سيطرته على العاصمة السورية قد يؤدي إلى تغييرٍ كبيرٍ في الخريطةِ الجيوسياسيةِ لأنَّها قد تمتد إلى الشمال السوري وتهدِّدُ الحدود الجنوبية لتركيا.
فقد تَصَدَّتْ تركيا إعلاميًا وسياسيًا ضد الإعتداءت الصهيونية المتكررة على سورية، في ظل عدم وجود خياراتٍ كبيرةٍ أمام الإدارة السورية الجديدة التي تَوَّلَتْ البلاد في مرحلة انتقالية دون امتلاكها لمؤسسةٍ عسكريةٍ فعالةٍ بعد أن دَمَّرَ الجيش الصهيوني سلاح الطيران وغالبية مستودعات الأسلحة بمجرَّدِ فِرَارِ الأسد خارج البلاد.وفي منتصف يناير/كانون الثاني 2025، طالب الرئيس التركي أردوغان الكيان الصهيوني إنهاء الأعمال العدائية التي يمارسها في سورية، وإلا فإنَّ النتائج التي ستظهر ستضر الجميع.
وفضلاً عن ذلك، تشهد المنطقة تنافسًا على مشاريع الطاقة والبنية التحتية المستقبلية في سورية.الكيان الصهيوني يسعى لحماية مصالحه في حقول الغاز في شرق المتوسط، بينما تُروج تركيا لنفوذها الاقتصادي عبر مشاريع إعادة الإعمار واستغلال الموارد المحلية.
ويعتمد الكيان الصهيوني بشكلٍ كبيرٍ على الدعم الأمريكي في تحركاته في سورية، سواء من خلال المعلومات الاستخباراتية أو الغطاء السياسي للعمليات العسكرية. في المقابل، تركيا تنسق بشكل وثيق مع روسيا، التي كانت تلعب دور الوسيط بين أنقرة والنظام السوري وتسمح بتحركات عسكرية محدودة لتركيا.
خاتمة: مع اشتداد التنافس الإقليمي والدولي، تبدو سورية عالقة بين أطماع القوى الكبرى ومصالح اللاعبين الإقليميين. تركيا تسعى لتعزيز دورها كقوة رئيسية في إعادة الإعمار، بينما يخشى الكيان الصهيوني من تبعات أي تغيير في النظام السوري قد يعيد تشكيل الخارطة الأمنية في المنطقة.
التحولات الجارية في سورية تعكس فراغًا استراتيجيًا خطيرًا قد يحدد مستقبل المنطقة لعقودٍ”.فسورية، التي أصبحت مسرحًا لصراعاتٍ متعددةِ الأطراف، تقف على مفترق طرق. الخيارات المطروحة أمامها تتراوح بين تسوياتٍ سياسيةٍ هشةٍ أو استمرار حالة الصراع المفتوح.وفي ظل هذه الظروف، ستظل سورية نقطة محورية في رسم ملامح شرق أوسط جديد، حيث لا تزال المعادلة الإقليمية والدولية غير واضحة المعالم.
المتغيرات الدولية، مثل التوترات الأمريكية مع كل من تركيا وإيران، قد تُعيدُ تشكيل ديناميكيات الصراع. فإذا شهدت المنطقة تحالفات جديدة أو تغيرت الأولويات الأمريكية في سورية، فقد يؤدي ذلك إلى تقارب أو تصعيد في الصراع التركي -الصهيوني.فرغم التحذيرات التركية، يبدو أنَّ أنقرة لا تزال تُفَضِّلُ الطرق الدبلوماسية. ففي آواخر ديسمبر/كانون الأول 2024 أوضحت القناة 12الصهيونية أنَّ الجانب التركي نقل رسائل إلى الكيان الصهيوني من أجل فتح قنوات تنسيق واتصال في سورية، في خطوة تعكس رغبة أنقرة بعدم حصول صدام بين قواتها والقوات الصهيونية.
ومن غير المستبعد أن يلجأ الطرفان التركي والصهيوني في نهاية المسار لتفعيل قنوات اتصال فعالة في سورية، والعمل على مناقشة المخاوف المتبادلة سواء الدعم الصهيوني لأكراد سورية، أو تخوف تل أبيب من تهديد هضبة الجولان من قبل الإدارة السورية الجديدة.
وقد تلعب إدارة ترامب التي استلمت السلطة رسميًا في البيت الأبيض دورًا فعالاً في مثل هذا التنسيق، إلى جانب دول إقليمية أخرى تمتلك علاقات جيدة مع كل من تركيا والكيان الصهيوني.
وبالفعل ظهرت مؤشرات توحي بإمكانية تدخل إدارة ترامب لمنع المزيد من التوتر في سورية حيث كشفت القناة 12 الصهيونية في 13 يناير/كانون الثاني 2025عن نصيحة وجهها مسؤولون في إدارة ترامب لتل أبيب بتجنب الإدلاء بتصريحات ضد الحكومة السورية الجديدة.
لكنَّ الصراع التركي الصهيوني سوف يستمرُ في سورية بشكلٍ غير مباشرٍ، من خلال دعم الأطراف المتناحرة أو تصعيد العمليات العسكرية المحدودة التي تستهدف تحقيق مكاسبٍ استراتيجيةٍ. تركيا ستسعى لتقليص النفوذ الإيراني، ولكنَّها قد ترى في التحركات الصهيونية تهديدًا لتوازن القوى في المنطقة.
لقد أصبح تزايد النفوذ التركي في سورية واضحًا للجميع، فهاهوالكاتب اللبناني المتخصص في الشؤون التركية محمد نور الدين، يقول في مقاله بصحيفة الأخبار اللبانية (1): إِنَّ اجتماعات الطرفَين التركي والسوري لا تتّسم بأي حال بالتوازن والندّية؛ إذ إنَّ ما تكشف عنه التصريحات المختلفة للأتراك أو السوريين، يعكس انسجاماً كاملاً في ما يخصّ الخطط المستقبلية، والتي تعتمد، وفقاً للعديد من الكتّاب الأتراك، على “نصائح” تركية لدمشق. وفي هذا السياق، كشفت صحيفة “غازيتيه دوار” عن بعض ما دار في اجتماع لجنة الشؤون الخارجية التركية، مع المدير العام للخارجية، نوح يلماز، الذي شرح لأعضاء اللجنة ملامح تلك الخطط، والمؤلّفة من أربع مراحل، أولاها عقد مؤتمر الحوار الوطني، والذي سيشارك فيه ألف وخمسمئة شخص من مختلف فئات الشعب، وستنبثق منه لجنة قانونية تنتخب لها رئيساً، توازياً مع تشكيل حكومة جديدة. وبحسب يلماز، فإن اللجنة القانونية ستعدّ دستوراً جديداً، بالتزامن مع إجراء إحصاء للسكان، حتى يمكن، من بعد عودة اللاجئين، إجراء انتخابات نيابية. وفي تذكير بما كان قد قاله حاكم سوريا الجديد، أحمد الشرع، أبلغ يلماز اللجنة أن الفترة الواقعية لتحقيق ذلك ستكون من ثلاث إلى أربع سنوات.
والواقع أنَّ الانخراط التركي الشامل في سورية خلق انطباعًا عنوانه: “مشكلة تركيا في سورية”. إذ يقول الكاتب فهيم طاشتكين، في “غازيتيه دوار”، إنَّ “التنافس الإقليمي والدولي في سورية يحشر هيئة تحرير الشام في الزاوية، وهي التي لا تزال مصنّفة على قوائم الإرهاب”. ووفقاً للكاتب، فإنَّ “إسرائيل” تراقب كي لا يعاد بناء الجيش السوري.
ومع ذلك، اعتبر خبراء ومراقبون من أنقرة في حديث لهم لموقع “الحرَّة”(2) أنَّ “إسرائيل قلقة بالفعل من دور تركيا في سوريا، لكنها تتصرف بطريقة تضاعف قلقها”.ويتابع الباحث السياسي التركي، عمر أوزكيزيلجيك كلماته السابقة بقوله: “يجب أن تكون إسرائيل سعيدة بتدمير الهلال الشيعي الإيراني”.
ويضيف أوزكيزيلجيك: “يجب أن تعمل أيضا مع تركيا لإنشاء آلية أمنية جديدة لا تشكل فيها سوريا تهديدا لأحد”.لكنه يردف: “لكن.. إسرائيل تفعل العكس، وتراهن على حصان خسر السباق بالفعل (قوات سوريا الديمقراطية “قسد” التي تهيمن عليها وحدات حماية الشعب)”، على حد وصفه.
لكنَّ في المقابل يتعارض حديث الباحث أوزكيزيلجيك مع ما سبق، ويوضح بعدما أشار إلى توغلات الكيان الصهيوني في جنوب سورية وتنفيذ أكثر من 500 غارة جوية أنَّ الأخير”يهدف إلى استفزاز ردٍّ عسكريٍّ من دمشق”.ورغم كل هذه الإعتداءات الصهيونية،”ظلّت دمشق هادئة ولم ترد إلا دبلوماسيًا. وهذا شيء جديد بالنسبة لإسرائيل لم تعتد عليه”، وفقًا للباحث التركي.
ويؤكد على فكرته بالقول: “يجب على إسرائيل أن تدرك أنَّه لا سورية ولا تركيا لديها مصلحة في صراعٍ وتصعيدٍ آخر. الجميع في سورية يريدون السلام والاستقرار”.و”يجب على إسرائيل أن تدرك هذا وتطلب من الولايات المتحدة وساطة فعالة تؤدي إلى عودة إسرائيل إلى حدود 74 وضمان تركيا أن سوريا لن تشكل تهديدا لأحد”، كما يضيف أوزكيزيلجيك.
تركيا هي واحدة من الدول القليلة ذات الأغلبية المسلمة التي تعترف بالكيان الصهيوني منذ العام 1949، وقبل حرب غزَّة كانت العلاقة بين تركيا والكيان الصهيوني تسير على مسار إيجابي.وبعد اندلاع الحرب توترت العلاقة إلى مستوى وصل إلى حد إيقاف التجارة من جانب تركيا والانخراط في مسارات مناهضة للكيان الصهيوني في الأروقة الدبلوماسية.
وفي مطلع أيار /مايو عام 2024، علقت تركيا كل التبادلات التجارية مع دولة الاحتلال الصهيوني إلى أن تسمح بوصول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة.وقالت وزارة التجارة التركية، في بيان، إنَّه “تم تعليق الصادرات والواردات المرتبطة بإسرائيل”.
وذكرت تركيا أيضا أنَّها لن تستأنف التجارة التي يقدر حجمها بنحو 7مليارات دولار سنويًا مع دولة الاحتلال لحين التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار وتوفير المساعدات الإنسانية في قطاع غزة.وسبق ذلك بأسابيع قليلة، قرار تركيا فرض قيود على صادرات 54 منتجا إلى دولة الاحتلال الصهيوني بهدف دفعها إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة.
وربطت أنقرة على لسان وزير خارجيتها هاكان فيدان، قرارها تقييد الصادرات التي تضمنت مواد بناء ووقودا للطائرات، بعرقلة “إسرائيل” المساعي التركية الرامية إلى تنفيذ إنزالات جوية للمساعدات الإنسانية على قطاع غزة.وتجدر الإشارة إلى أنَّ تركيا كانت قد توجهت بخطوات متسارعة إلى التشديد على وقوفها إلى جانب فلسطين ومقاومتها بشكل لا لبس فيه عبر اتخاذ العديد من القرارات المهمة، بما في ذلك إعلان انضمامها إلى دعوى جنوب أفريقيا ضد الاحتلال الصهيوني أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي.
وبعد أيام من دخول صفقة وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى بين الاحتلال الصهيوني وحركة المقاومة الإسلامية “حماس” حيز التنفيذ، بعد جولات عديدة من المفاوضات المتعثرة بين الجانبين عبر الوسطاء، نقلت وكالة “رويترز” عن رئيس مجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية التركي، نائل أولباك، قوله إنَّ تركيا قد تستأنف التجارة مع الكيان الصهيوني “إذا كان السلام دائما”.