العربية Français Anglais

غزة: بين الركام يولد المجد وتنتصر المقاومة .. بقلم محمدعلي عقربي

في السابع من أكتوبر 2023، بزغ فجر جديد على غزة، لكنه لم يكن كأي فجر. كانت بندقية المقاومة الفلسطينية تصدح لأول مرة منذ سنوات في وجه عدو ظنّ أن الحصار والجوع كفيلان بكسر إرادة أهلها. انطلقت الصواريخ الأولى لتخترق سماءً اعتادت أن تحجبها طائرات العدو، وفي لحظات تحولت غزة، بأسوارها وأزقتها، إلى ساحة مواجهة مفتوحة ضد الاحتلال. تسللت كتائب القسام إلى قلب خطوط العدو، وعبرت الجدار العازل، وأخذت أسرى في مشهد لم تشهده معارك فلسطين منذ عقود.

كان المشهد مزيجًا من العظمة والمأساة. شيخ يُبكي بيتًا أحلامه فيه ناهزت أربعين عامًا، ثم يقول: “كله فداء فلسطين… سنبني بيتًا آخر.” كانت كلماته انكسارًا وأملًا في آن واحد، صورة تختزل فلسفة المقاومة التي تعي ثمن الحرية وتدفعه عن وعي وإيمان. لم تكن الدماء وحدها من شكلت معالم هذه الحرب؛ بل كلمات وداع الحبيب لحبيبته التي ارتقت قبل أيّام من الزواج، ورسائل الصديق لصديقه الذي سقط في المعركة، ومئات العيون المفزعة التي اختزلت الصدمة في وجوه أطفال أصبح صوت الطائرات ودويّ القصف جزءًا لا ينفصل عن طفولتهم.

لقد سقطت غزة تحت جحيم القنابل. انهارت البيوت فوق ساكنيها، وتحولت الأحياء إلى مقابر. لكن في كل لحظة موت، كان صوت الحياة أقوى. شاهد العالم شيخًا يبكي بيته ثم يمضي إلى البناء من جديد، ورأى عائلات تحت الأنقاض تنادي بفداء الأرض، وأطفالًا يرددون أسماء الشهداء كما لو كانوا أنشودة صباحية للكرامة.

في خضم هذا الجنون، كان التاريخ يعيد إنتاج رموزه. خالد الذي رسمه غسان كنفاني في عائد إلى حيفا عاد حيًا في عيون أبطال الطوفان. كان خالد سنوار، وكان الصاروخ الذي انطلق أولًا في السابع من أكتوبر. وكان حنظلة، الذي أدار ظهره للعالم المتواطئ، يجسده كل طفل قُصف بيته وهو يحدق بعينيه الواسعتين في أفق يمطر نارًا.

بين القصف والانهيار، بين الدماء المهدورة والركام المتناثر، سجلت المقاومة انتصارًا جديدًا للروح. دخلت إلى عمق الأراضي المحتلة، خطفت أسرى، وأربكت حسابات العدو الذي لطالما تغنى بتفوقه العسكري. أما غزة، المدينة الصغيرة المحاصرة، فقدمت 46 ألف شهيد، وتركت للعالم درسًا أبديًا: أن الحرية تُفتدى بالدماء، وأن من يظن أن الجدران العازلة توقف الطوفان لا يعرف شيئًا عن إرادة الشعوب.

في خاتمة الحرب، وقف الزمن شاهدًا على أن فضائل المقاومة ليست شعارات تُرفع في الميادين، بل أفعال تُسطر بالدم والدموع. لقد عبرت المقاومة الجدار، واشتعلت المعركة في قلب الحصون، بينما بقيت غزة رمزًا خالدًا للصمود. سيكتب التاريخ أن غزة لم تسقط رغم الركام، وأنها زرعت أملًا لا ينطفئ في ضمير الأمة، وأن حلم التحرير، رغم الأوجاع، بات أقرب.

  • Related Posts

    شهادة حول عصر مضطرب من تاريخ تونس المعاصر.. كتاب جديد

    صدر مؤخرا عن الدار المتوسطية للنشر بتونس كتاب من الحجم الكبير، من 550 صفحة، يحمل عنوان: “أقواس من حياتي”  للكاتب والاعلامي والناشط السياسي والحقوقي التونسي المستقل صلاح الدين الجورشي. وقد  برز الجورشي منذ عقود…

    رفض مصري أردني فلسطيني لمقترح ترامب بتهجير سكان غزة

    أعلنت مصر والأردن وفصائل فلسطينية رفضها القاطع لتصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب التي قال فيها إنه يود أن يرى الأردن ومصر ودولا عربية أخرى تزيد من عدد اللاجئين الفلسطينيين الذين…

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *