يسار الكافيار و بقايا الاستعمار.. و”الفزعة” الأيديولوجية / بقلم خالد شوكات

ما المقصود أوّلاً بالآتي:

*يسار الكافيار: هي طائفة سياسية لم يظلّ لها من اليسار و قضاياه الاجتماعية العادلة إلا معاداة كلّ ما يمتّ بصلة لعناصر هويتنا الوطنية العربية الإسلامية، تعيش غالبا عيشة برجوازية لكنها تزعم بين الفينة و الأخرى الدفاع عن الطبقات الضعيفة.

*بقايا الاستعمار: هي طائفة ثقافية خلّفها الاستعمار الفرنسي عند رحيله سنة 1956 وراءه، فبقيت الأجسام هنا لكن العقول والأرواح تطوف هناك حول باريس وضواحيها، غايتها أن تحقّق في شعبنا لغويا ودينيا ما عجزت السلطة الاستعمارية عن فعله طيلة قرن إلا ربع من الهيمنة العنصرية على بلادنا.

وتلتقي الطائفتان في جملة من الخصائص والأهداف والوسائل المشتركة، لعلَّ أخطرها ما يلي:

1- السعي المحموم إلى القضاء على اللغة العربية في مناهج التعليم ووسائل الإعلام، من مدخل منح الاعتبار للهجة العامية، التي لوحظ أن نسبة الفرنسية فيها أصبحت تزيد كلّ يوم، فمن يقارن عاميتنا قبل عقد أو عقدين سيلاحظ التراجع الكبير لمكانة الفصحى داخلها على حساب العجمة الهجينة والركيكة، وقد أضحى حديث بعضنا بلغة عامية أقرب إلى الفصيحة محل تندّر واستهزاء، مثلما أضحى دليل “التونسة” حشر كلمات فرنسية بين الحديث حشرًا، ومن هنا فإنه لم يعد بمقدور الأجيال الناشئة إتقان أي لغة بشكل سليم، لا اللغة الوطنية العربية ولا اللغات الأجنبية، وهذه مقدمة لهوية وطنية مضطربة يمكن البناء عليها من خلال تفتيتها إلى حد تدميرها.

2- العمل على تصوير “المدنية” و”الديمقراطية” باعتبارهما قطيعة كليّة مع حضور الدين الإسلامي، بالمعنى القيَمي والأخلاقي والنفسي في المجال العام، وتحديدا في المجال السياسي، على نحو يزايد حتى على العلمانية بمفهومها اللائكي الفرنسي، ويجعل الأمر أقرب إلى “الأتاتوركية” أو “الستالينية”، أي أن تكون الدولة في عداء سافر مع الدّين باعتباره ظاهرة ” ما قبل حداثية” وممارسة مرتبطة بالمجتمعات الأكثر تخلفا، ومن هنا تصبح الثورة التي انطلقت شرارتها من المناطق الداخلية المحافظة وسقط لأجل إنجاحها عشرات الشهداء في سيدي بوزيد والقصرين، أداة في يد مجموعة كارهة لذاتها مستعبدة من ثقافة غيرها، لفرض ” نمط” هجين لعلمانية متطرفة.

3- محاولة الانقضاض على حركة نداء تونس، التي هي امتداد للحركة الوطنية الاصلاحية التي أسست أواخر القرن التاسع عشر على أيدي مشايخ الزيتونة المصلحين، والسعي إلى فرضها كحاوية لمشروعهم “الحداثوي” و”اليسروي”، مستغلين نقاط ضعف المرحلة الانتقالية وأخطاء ارتكبتها الحركة الاسلامية، لتحويل طبيعة الصراع من حقيقته السياسية إلى حالة صراع ايديولوجي مُدَمّرة تنتهي بإعادة البلاد إلى نظام الاقصاء والسجون والمنافي، ذلك الذي تسرّب القوم إلى مفاصله في بداية التسعينيات مستغلين رغبة الرئيس بن علي في تدمير خصم سياسي شرس، ولو علم هذا الأخير من أمره ما استدبر لما سار في المنهج الذي سار عليه ولوجد سبيلا وسطا جنّب البلاد شرور عشرية سوداء وجنّبه هو شخصيا هذه النهاية الحزينة.

4- السعي المستمرّ إلى التسرّب إلى مواطن القرار، بالحيلة والمكيدة والدسيسة، إذ يعلمون أن محاولاتهم تشكيل أحزاب خاصّة بهم باءت بالفشل الذريع، فشعبيتهم عند عموم التونسيين، رغم امتلاكهم جميع عناصر القوة من مال وإعلام، ظلّت جدّ محدودة، فالشعب التونسي المتجذر رغم كل عوامل الازدراء والاستهزاء، لم يقبل بهم وبأفكارهم ومشاريعهم، يرى فيهم الوجه الآخر للتطرّف الديني، بل لعلّهم أحد عوامل وجوده وانتشاره في صفوف أبنائهم المغرّر بهم من مدخل ردّ الفعل على خطاب يحتقر الذات وتصب مخططاته لتفكيك النسيج المجتمعي القائم على العائلة كنواة أولى مقدّسة.

5- ممارسة “الفزعة” الأيديولوجية، في شكل معاصر لممارسة شديدة الرجعية، وبمفهومها القبلي الذي تجاوزه الإسلام منذ قرون، انصر أخاك ظالما أو مظلوما، فبمجرد اشتباك فكري أو سياسي مع من يصنفونه خصما، تراهم هبّوا من كلّ فجٍّ لممارسة “النصرة” والدخول في “حفلة ردح” جماعي، مردّدين ذات الاتهامات السمجة المتهافتة، غايتهم إرهاب عدوّهم ودحره إلى مربعات الدفاع، وهو أمر نجح إلى حدّ ما في جعل قوى الأصالة والهوية والاستقلال الحضاري تتخلَّى عن كثير من واجباتها تجاه اللغة العربية والقيم الدينية والأسرية و المواطنة المتساوية.

أقول ختاما، إن هؤلاء القوم لن يرهبوننا ولن يثنونا عن ايماننا العميق بأن المشروع الحضاري الوطني الذي عملنا ولا نزال من أجله، هو مشروع يقوم على التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، وأن الديمقراطية التي أتت بها ثورة 17 ديسمبر لن تكون مطيّة لتدمير هويّة شعبنا أو النيل من سيادتنا الوطنية المعمدة بدماء الشهداء، وأن مدنية الدولة لن تكون على حساب قيمنا الدينية والأخلاقية والعائلية، وأن الحرّيات الفردية لن تكون مشروع تفكيك لنسيجنا المجتمعي ومرجعيتنا الروحية، مع تمسكنا بمدرستنا المقاصدية الاجتهادية التنويرية الاصلاحية، لأن الذات المستلبة لا تصنع تقدّماً أو حضارة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *