بين يدي المصالحة بين فتح و حماس: ما الذي تغير حتى تنجح ؟ – بقلم عزام التـميمي

 أولاً، ما من شك في أن المحاصرين لقطاع غزة قد نجحوا، ووصلت ضغوطهم على سكان القطاع درجة الألم غير المحتمل، وبلغ الأمر حداً من السوء أجبر قيادة حماس على أن تبدي الاستعداد لتقديم تنازلات لم تكن متصورة من قبل. حتى الآن لم تتضح الصورة إزاء هذه التنازلات، لأن الضبابية مازالت تكتنف المشهد، لكن من الواضح أن حماس إذا كانت ستسلم إدارة القطاع إلى سلطة رام الله، وستسلم إدارة المعابر، وستتنازل عن مختلف الإدارات الأخرى، فماذا سيبقى لها من تمكن؟ وعلى ماذا ستستند في ثباتها في خندق المواجهة مع الاحتلال؟ هل تستطيع بعد ذلك كله أن تظل محافظة على سلاحها؟ يصر بعض قادة حماس أن سلاح المقاومة ليس مطروحاً على طاولة التفاوض، بينما يصر بعض قادة فتح أنه لابد أن تشمله التنازلات لأنه لا يعقل أن يبقى سلاح خارج إطار السلطة الرسمية. ولا يتصور أن الإسرائيليين والأمريكان، الذين يقال إنهم يباركون الخطوات الأخيرة، سيقبلون باستمرار حماس مطلقة اليدين! وهو أمر لا يقبل به المصريون أساساً. 
 
وثانياً، تم مؤخراً انتخاب قيادة جديدة لحركة حماس على مستوى قطاع غزة وعلى المستوى العام، وكلا القيادتين تتركزان حالياً داخل القطاع، مما يكرس الأولوية التي تحظى بها غزة في هموم الحركة وصناعة قرارها.  ومن إيجابيات ذلك للوهلة الأولى أن القرار صار يتخذ سريعاً، دون إعاقة بسبب الآليات القديمة التي كانت تعتمد درجة عالية – ربما مبالغ فيها في بعض الأوقات وبعض الحالات – من الشورى. وقد مكن الوضع الجديد قيادة الحركة في القطاع من الدفع قدماً بالأمور في تسارع غير معهود. ولا أدل على ذلك من التفاهمات التي أبرمت مع محمد دحلان في القاهرة دون الرجوع إلى أحد من قيادات الحركة في الخارج. وثالثاً، لا يخفى على مراقب للشأن الفلسطيني أن مقدرات حركة حماس قد ضعفت، وبات داعموها يجدون صعوبة بالغة في تقديم يد العون إليها داخل القطاع المحاصر، وذلك بعد نجاح الثورة المضادة في إحباط ثورات الربيع العربي وفي الانقلاب على أول نظام ديمقراطي واعد شهدته مصر في تاريخها المعاصر. ولا يمكن في هذا الصدد إغفال الخلاف الذي نشب بين حماس مع إيران حول الموقف من الثورة في سوريا وما نجم عنه من وقف أو تقليص شديد للدعم الذي كانت إيران تقدمه مالياً وعسكرياً لحركة حماس داخل غزة. ساهمت هذه التطورات المذهلة، والتي لم تكن في الحسبان، في إضعاف حركة حماس في الخارج، فبعد أن كانت المؤسسات المساندة لها على مدى ما يزيد عن ربع قرن تمد الداخل بمختلف أشكال الدعم، وتساعده على الصمود والاستمرار في النضال والمقاومة، أخذ النشاط في الخارج يشهد تراجعاً تحت وطأة الحصار الذي تفرضه كثير من أنظمة الدول العربية وبسبب انتقال قيادة الحركة إلى داخل القطاع.
  
ورابعاً، ترى قيادة حماس الجديدة، التي تتخذ من قطاع غزة المحاصر مقراً لها، ضرورة تجاوز أحداث يونيو من عام 2007 وما تمخض عنها من مآسي بأي ثمن، وترى أن إصلاح ذات البين داخل مجتمع القطاع مقدم على كل أمر آخر، وهي قضية تجد قبولاً ومباركة لدى شريحة عريضة من الناس الذين يرغبون في طي تلك الصفحة السوداء من تاريخ القطاع المعاصر. ما من شك في أن ذلك يشكل فرصة سانحة أمام محمد دحلان حتى يبيض صفحته ويعود إلى القطاع في صورة الفارس المنقذ، وخاصة بما يحظى به من دعم إماراتي ومصري مالياً وسياسياً وإعلامياً. ولم يعد سراً أنه يلعب من خلال المجموعة الموالية له داخل حركة فتح في القطاع، بمساندة إماراتية ومصرية، دوراً محورياً في إتمام إجراءات المصالحة المجتمعية التي تشتمل على دفع تعويضات تصل إلى خمسين آلف دولار لكل عائلة متضررة بحسب ما نقلته وكالة رويترز.  

وخامساً، باتت مصر تواجه مشكلة أمنية مستعصية في سيناء، وبشكل أساسي في شمالها الذي يحاذي قطاع غزة. وثمة ما يشير إلى أن الأجهزة الأمنية في مصر وصلت إلى القناعة بوجوب حل مشاكل قطاع غزة، أو على الأقل التخفيف من حدتها، أملاً في أن يساهم ذلك في تهدئة الأوضاع في سيناء. ورغم أن النظام العسكري في مصر لا يثق بحركة حماس بل ويعتبرها امتداداً لجماعة الإخوان المسلمين التي هو في حرب معها، إلا أنه مضطر للتفاهم معها ضمن معادلة جديدة تضمن له تحييدها، وتمهد لعودة الأوضاع في قطاع غزة بالتدريج إلى ما كانت عليه قبل أحداث يونيو (حزيران) 2007. 

وسادساً، باتت الأطراف العربية التي تشكل تحالف الثورة المضادة حريصة على إنجاز المصالحة الفلسطينية، فالمصالحة ضمن التصور المتداول من شأنها أن تحجم حركة حماس، وخاصة أنها تكاد تنحصر في إعادة ترتيب الأوضاع داخل قطاع غزة دونما تطرق للأوضاع في الضفة الغربية، حيث تستمر السلطة هناك في التعاون مع سلطات الاحتلال والتنسيق معها أمنياً، مستهدفة عناصر حماس ومن يتعاطف معها بالملاحقة والتنكيل. في نفس الوقت، تساعد المصالحة من وجهة النظر العربية الرسمية على تخطي عقبة كأداء في طريق التطبيع مع الكيان الصهيوني بشكل علني ورسمي، وإقامة علاقات سياسية واقتصادية معه. لا خلاف على أن هذه المنظومة العربية متأهبة للتفاهم مع الصهاينة، بل ولديها رغبة شديدة في إبرام صفقات ومعاهدات مع الكيان الصهيوني. وبينما ترى الحكومة الإسرائيلية بقيادة نتنياهو أن العلاقات مع العرب ينبغي أن تسبق حل النزاع وأن التطبيع مع العرب يمكن أن يساهم فيما بعد في حل المشكلة مع الفلسطينيين، يستصعب العرب المضي قدماً في التطبيع والتفاهم بشكل علني ورسمي بينما الموضوع الفلسطيني معلق بلا حسم. ونظراً لأن الصهاينة طالما تذرعوا بالانقسام الفلسطيني حتى لا يمضوا قدماً في إنجاز المراحل المتبقية من استحقاقات أوسلو، التي من المفترض نظرياً أن تنهي الصراع تماماً وتطوي كل فصوله، فقد غدت المصالحة ضرورة ملحة أكثر من أي وقت مضى. 

في المحصلة، يبدو أن حركة حماس في قطاع غزة تجد نفسها مضطرة للسير على خطى حركة النهضة في تونس. ففي ظل الضغوط الهائلة والحصار المستحكم، لا مفر مقابل ضمان البقاء، بشكل من الأشكال، من تقديم تنازلات غير مسبوقة، بل لم تكن تخطر ببال. وفي هذه المرحلة العصيبة تصبح كثير من الأمور نسبية، وما لم يكن مقبولاً ولا مبرراً من قبل يصبح باسم الاجتهاد السياسي خياراً مباركاً. 

لم يعد خاف على أحد أن الصفقة التي من المفروض أن تمضي حماس في إبرامها لإنجاز المصالحة الشاملة أطرافها هم نظام السيسي، ومحمد دحلان الذي يعمل لدى محمد بن زايد، ومحمود عباس. وعلى الرغم من أنه يصعب على المرء أن يحسن الظن بأي من هذه الأطراف أو أن يرجو منها خيراً، إلا أن الحصار الخانق ألجأ الكثيرين من أهل قطاع غزة إلى أن يعبروا عن الرغبة في إنجاز المصالحة وإتمام التفاهمات أياً كانت الشروط ومهما كان الثمن، ولا أظنهم يلامون على ذلك بعدما لاقوه من عنت.

لا يستبعد بتاتاً أننا مقبلون على استحقاق جديد من استحقاقات الثورة المضادة، ألا وهو إطفاء جذوة المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني في فلسطين. فقد بات ذلك مطلباً عربياً رسمياً وعلنياً بعد أن كان مطلباً إسرائيلياً وغربياً. وكما أجهضت أنظمة الاستبداد مشروع التغيير السياسي سيسعى صهاينة العرب المتنفذون فيها إلى إنهاء مشروع المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الصهيوني، وسيعملون بكل ما أوتوا من قوة ومال لأن تصبح حركات المقاومة، ومنها حماس، جزءاً من التاريخ، كما حصل مع أسلاف لها من قبل. 

ولكن، حتى لو تحقق لهم ذلك، فلن يطول بهم المقام. إذ لا مفر من أن تنتفض الأمة مجدداً، وينطلق مشروع تحرير جديد. عاجلاً أم آجلاً، سيحصل ذلك لا محالة، فتلك سنة الله في التغيير.  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *