البداوة الجهادية و الموت: أوليفيه روا و إعادة النظر في متخيل الجهاديين الأوروبيين – بقلم محمد تركي الربيعو

كان حقل الدراسات والأبحاث وحتى التقارير الصحافية الرصينة حول الجهاديين قد شهد طفرة كبيرة، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، والاحتلال الأمريكي للعراق. ولاحقاً مع انفجار الجهادية الجديدة بعيد الانتفاضة في سوريا، الأمر الذي أتاح للقارئ العربي في ظل وفرة وسائل التواصل الاجتماعي الاطلاع والتعرّف على أبحاث وترجمات وتقارير جديدة، لباحثين وأكاديميين وصحافيين وخبراء، لا يسع المجال لذكرهم جميعاً، و لكن يمكن الإشارة هنا إلى جهود بعضهم من أمثال توماس هيغهامر، فرهارد خسرو، سكوت أتران، فرانسوا بورغا، فواز جرجس، حسن أبو هنية، محمد أبو رمان، وائل عصام، إضافة إلى جهود مراكز بحثية مثل مركز مسبار، و عشرات التقارير الأسبوعية والتجارب الشخصية التي باتت تقدم معلومات وفيرة عن الجهاديين الجدد وأعمالهم وحيواتهم والبلدان التي ولدوا فيها، وكيف يعيشون في مدن الخلافة الإسلامية (دون أن يخلو الأمر في أغلب الأحيان من مبالغات عديدة).

هذا الأمر ساهم في نمو كبير لمكتبة القارئ العربي حول الجهاديين والحركات الإسلامية عموماً، في حين يمكن القول إن هذه المكتبة قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر اقتصرت على بعض كتابات المصريين في دراسة الحركات الإسلامية القتالية المحلية، أو على كتب أوليفيه روا «فشل الإسلام السياسي»، و»عولمة الإسلام» أو على كتابات خصمه اللدود جيل كيبل، التي حظيت باهتمام كبير، خاصة كتبه حول «الفرعون والنبي»، «يوم الله»، «المثقف والمناضل في الإسلام المعاصر»، التي صدرت جميعاً قبيل أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

و قد أخذ هذا التطور يعني أنه لم يعد هناك من يمتلك «مفتاح الكهف السري» على حد تعبير الباحث البلجيكي توماس بيريه (متخصص في دراسات الإسلام داخل سوريا)، الذي يشير في حوار نُشِرت ترجمته مؤخراً للعربية على موقع معهد العالم للدراسات تحت عنوان «النزاع وسوريا، الثينك تانك، الأكاديمية» إلى أنه بعد عام 2011 ظهر للعديد من الأكاديميين، أنه ما عاد بإمكانهم تقديم معلومات أكثر أو أوسع مما يقدمه خبراء الثينك تانك، الذين تطورت أدواتهم كثيراً في السنوات الماضية، أو حتى مما تقدِّمه بعض التقارير الصحافية. هذا التطور البحثي، لا يعني وفقاً لبيريه، أن الأكاديمي لم يعد له دور يذكر، مقابل دور خبراء الثينك تانك أو خبراء ذاتيي التعليم (وهو يثني على ما ينتجونه من معرفة جديدة) بل بات دوره يكمن في تقديم أوصاف تحليلية أوسع، تساعد القارئ على فهم التطورات على المدى الطويل. ولعل التوصيف الأخير لدور الأكاديمي الذي يشير إليه بيريه، هو ما يمكن ملاحظته في كتب أوليفيه روا، وبشكل أقل في كتب كيبل الذي يبدو رافضاً فكرة فقدانه جزئياً لاحتكار اكتشاف مغارة الجهاديين، عبر تحوله إلى نجم تلفزيوني، و من خلال السرعة في إصدار كتب مناسبات تحفظ له لعب دور الكاهن والعارف بالأحداث، التي شهدتها أو ستشهدها فرنسا خلال الفترة المقبلة، كما هو الحال في كتابه «الهوة» الذي صدر بعيد أحداث «شارلي إيبدو»، و الذي حاول من خلاله تفسير ظاهرة الجيل الجديد من الجهاديين في فرنسا، من خلال متلازمة «كتابات أبو مصعب السوري» حول المقاومة الإسلامية العالمية؛ على الرغم من أن بعض الباحثين قد شكّكوا بهذه السردية؛ إذ تبين للأنثربولوجي العراقي هشام داود ـ باحث في المركز الوطني الفرنسي للأبحاث ـ من خلال عمله على موضوع مكتبات ومراجع «داعش» في المناطق العراقية، التي سيطر عليها الأكراد، أنه لا وجود يُذكر لأبو مصعب السوري. في حين نجد أن أوليفيه روا، على الرغم من أنه لم ينقطع أيضاً عن النقاشات الإعلامية وحتى الصحافية في هذا الجانب، فإنه من الملاحظ مثلاً في كتابه الأخير «الجهاد والموت» الصادر بالفرنسية سنة 2016، والمُترجم للعربية عن دار الساقي، صالح الأشمر. أن روا بدا مشغولاً من خلال عينة مؤلفة من 100 جهادي فرنسي، بالبحث عن تفسيرات ومخيلة سوسيولوجية، تكون بديلة عن بعض السرديات التي سعت إلى فهم ظاهرة «البداوة الجهادية» التي أخذ يمارسها بعض الفرنسيين في مدن سوريا والعراق. في هذا الجانب يمكن أن نشير إلى ثلاث سرديات أساسية: الأولى هي لفرانسوا بورغا (الإرث الاستعماري والتدخلات الغربية)، الثانية هي لجيل كيبل (إسلام الضواحي)، وأما الثالثة فهي (سردية الجنون) التي أطلقها بعض علماء النفس من أمثال فتحي بن سلامة.

و يرى روا في ما يتعلق بالسردية الأولى، أن الباحث الفرنسي فرانسوا بورغا غالباً ما يفترض أن المتطرفين تحفّزهم معاناة المسلمين، و المستعمَرين سابقاً، أو ضحايا العنصرية، وعمليات القصف، الاستشراق.. الخ وأن التمرد هو تمرد أولاد الضحايا. في حين تبيّن لنا البيانات العائلية لهؤلاء المتطرفين أن الصلة بينهم وبين الضحايا صلة خيالية أكثر منها واقعية، فالذين ينفّذون التفجيرات في أوروبا ليسوا سكان قطاع غزة، ولا الليبيين، ولا الأفغان، ولا هم بالضرورة الأكثر فقراً، و لا الأكثر مهانةً، و لا الأقل اندماجاً. ويدل وجود 25٪ من المتحولين إلى الديانة الإسلامية في صفوف الجهاديين على أن الصلة بين المتطرفين وشعبهم هي أيضاً من قبيل الخيال الماركسي الذي يغلّف رؤية بورغا.

و في ما يتعلق بسردية «استياء شبان الضاحية» لجيل كيبل، التي تقوم على فكرة أن هناك استمرارية بين: حرب الجزائر، ومسيرة أبناء المهاجرين عام 1983، وهجمات عام 1995، واضطرابات عام 2005، والتضامن مع فلسطين، وارتداء الحجاب، وانتشار استهلاك الطعام الحلال والإرهاب الحالي، الذي يبدو على نحو ما ختام سيرورة لفشل/رفض الاندماج. فإن هذه الاستمرارية ـ وفقاً لروا- لا حقيقة لها سوى التسمية الغامضة «شبان من أصل مسلم» ينتمون إلى عرقية واحدة. ولعل ما يدحض سردية الاستمرارية بين أشكال التمرد المتعددة، هو أن المجموعات الإرهابية ليست اليوم سوى مجموعات منغلقة على نفسها، تتناسخ و تتجاوب في ما بينها، بدون أن تغرف من الخزان الاجتماعي المحيط، الذي هو بمثابة حاضنة لدى كيبل. فبنية المجموعات تبقى هي نفسها: مجموعة من الرفاق، و الأخوة والأخوات، الذين يمكن أن يكونوا أصدقاء منذ الطفولة أو تلاقوا في السجن، و أحياناً في معسكر تدريب.

هنا نجد أن روا يشير إلى ذات الخلاصة التي توصل إليها الأنثربولوجي الفرنسي سكوت أتران في كتابه «الحديث إلى العدو»، التي تقول إن علاقات الصداقة والقرابة هي ما بات يحرك الجهاد اليوم. من جهة أخرى لا يأتي المتطرفون من فضاءات سلفية (وهذه الفكرة التي لطالما تطرّق لها كيبل في سياق نقده لروا)؛ فقد كان الأخوان عبد السلام (منفذي شارلي إيبدو) يديران حانة في حي يقدمونه إلينا على أنه ذو طابع سلفي، أي أنه محظور نظرياً على شاربي الكحول والفتيات غير المحجبات، لكن هذا المثال يبين أن حقيقة الأحياء ذائعة الصيت أكثر تعقيداً مما يقال.

من ناحية أخرى، يرى صاحب كتاب «الجهل المقدس» أن علماء النفس باتوا منذ الهجوم على «شارلي إيبدو»، يتدخّلون أكثر فأكثر في سوق استئصال التطرف، وهم في الغالب يؤكدون عموماً على أهمية «الجرح النرجسي» للإرهابيين ودور الاستياء والشعور بانخفاض المنزلة. صحيح أن بعض الإرهابيين من أمثال محمد الحويج بوهلال، قاتل نيس كان يعاني من اضطرابات نفسية، وقد حاول إدراج جنونه في سردية «داعش» الكبرى، مع ذلك فإن الحدود بين الجنون والتطرف تبقى ضبابية وفقاً لروا.

متخيل الجهاديين الأوروبيين:

يرى روا أنه ينبغي عدم البحث عن علة التطرف في المنطق الاستراتيجي (مواجهة الغرب)؛ فيقترح علينا هنا تحليل عنصر غالباً ما بقي هامشيا في تفسيرات الباحثين، وهو العنصر المتعلق بالمتخيل الجهادي. فبدلاً من الارتماء في نصوص الجهاديين، يحاول روا الاستماع إلى ما يقوله هؤلاء الإرهابيون. عند الجميع تتكرر ثلاثة دوافع، ملخصة في إعلان ما بعد الوفاة المرئي؛ الدافع الأول يتمثل في استذكار الفظاعات التي ارتكبتها البلدان الغربية ضد «الشعب المسلم».

أما الدافع الثاني فهو دور البطل ـ المنتقم المُلقى على عاتق المناضل الذي يتكلم. بينما يتمثّل الدافع الثالث في الموت والاستقبال في الجنة (نحن نحبّ الموت كما تحبّون الحياة) كما قال محمد صديق خان منفذ هجمات لندن 2005. وما يلفت نظر روا في إعلانات الموت هذه، أن المجتمع المسلم الذي يُراد الانتقام له، لم يحدّد على وجه الدقة. هذا معطى لا تاريخي ولا مكاني. وهذه العلاقة الافتراضية بمجتمع المسلمين كافة واضحة لدى المتحولين. ما يعنيهم هو الإسلام العالمي وليس هذا النزاع أو ذاك. وثمة أمر بالغ الدلالة: لا أحد من الجهاديين المسلمين، أو المتحولين، ناضل في إطار حركة مؤيّدة للفلسطينيين وليسوا نتاج حركة نضالية محبطة.

كما أن جغرافيتهم ذات معنيين؛ فأسماؤهم الحربية غالباً ما تكون أسماء بلدانهم الحقيقية: الفرنساوي، البلجيكي، الألماني، البريطاني، مع استثناء وحيد هو الأندلسي للإسبانيين وللبرتغاليين. لكنهم لا يذهبون إلى سوريا بل إلى الشام، وهو مفهوم يفترض أنه يتجاهل الحدود المعاصرة، فهم يذهبون من عالم حقيقي متجهين نحو عالم متخيل، وما إتلافهم الآثار الفنية والدينية والتاريخية، إلا دليل على غياب مبالاتهم بكل ثقافة محلية، وبالتالي هنا نجد أن متخيلهم يتفاوت تفاوتاً كلياً مع التاريخ المعاصر للشرق الأوسط (هذا التاريخ هو الحجة التي يشير إليها بورغا في تفسير نمو ظاهرة الجهاديين). هذه اللاتمييزية الزمنية توجد في المكاني: يزاولون بداوة جهادية تأخذهم حيث ما وجد جهاد، لكن لا أحد يسعى إلى الاندماج في البلد الذي يقاتل على أرضه.

و على غرار العديد من الإنجيليين البروتستانت الأمريكيين، يؤمن أنصار «داعش»، وفقاً لروا، باقتراب نهاية العالم ويترقّبون علاماتها. من ذلك مثلاً أن العدد الخامس من «دار الإسلام» نشرة «داعش» باللغة الفرنسية، يحتوي على مقالة طويلة بعنوان «إعادة إحياء العبودية قبل قيام الساعة» تُبرر استعباد النساء الإيزيديات وجعلهن بمنزلة الإماء المحظيات، لكن الأكثر مدعاة للدهشة هو أن عودة العبودية، بعدما عفا عليها الزمن، لا تُقدّم على أنها مجرد استئناف لممارسة مقبولة في عصور الإسلام الأولى، وإنما الدليل على قيام الساعة، لأننا رجعنا إلى الوضع الذي كان سائداً في زمن النبي. وإذا ما عدنا إلى زمن النبي، ولكن من دون نبي فقد وصلنا إلى آخر الزمان. لسنا هنا في اليوتوبيا (حيث يولد مجتمع أفضل) ولكن في العدمية: الموت والحروب هي الكفيلة بالوصول إلى نهاية الزمن وبالوصول إلى الجنة.

و بالتالي لا بأس من تمرّد شامل ضد نظام العالم، يجري في ظل حالة من التجريد المكاني والزمني البعيد عن نزاعات الشرق الأوسط وعن السرديات التي تحاول ربط هذا التطرف «بإسلام الضواحي». إذن النتيجة هي أن ما يحرك الجهاديين الأوروبيين يعود لثقافة شابة معاصرة لا تنظر للموت بوصفه وسيلة، بل هو الغاية؛ كما أن هذه الثقافة ما عادت تنظر للتمرد بوصفه جزءاً من حركة تحرر وطني (كما هو الحال مع الحركات اليسارية)، بل هو تمرد شامل (بداوة ثورية) ضد نظام العالم، يقوم على الجهاد، مع مضاعفة عدد الإمارات المحلية، والبؤر الجديدة.

 

محمد تركي الربيعو 

٭ كاتب سوري

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *